الأحد، 5 يونيو 2022

الميتافيزيقيا

 

تخيل أنك كنت تغسل الصحون ثم رآك احدهم وقال لك مستنكرا : لماذا تغسل الصحون؟ ألست رجلا ؟!

بدأت تفكر بمدى صحة كلامه , وحاولت أن تدرك المعنى التام لمصطلح " الرجولة "  ووجدت أنها تستخدم في عدة سياقات مثلا :
- " الرجولة " وصف لشخص :  لا يسكت عن اهانة تعرض لها
- " الرجولة " وصف لشخص :   يتصدى لسارق اقتحم منزله

فلاحظت في المثالين بأن حالة الرجولة شيء مقترن بالغضب وان هنالك بالفعل من يرى الرجولة بهذا النحو اي انه الرجل العنيف الغضوب
لكنك تذكرت كيف للغضب ان يدمر الاشياء الحسنة !  , ثم عدت للمثالين ورأيت بأن الشيء المشترك بينهما هو تحمل الاذى وان من يتحمل الاذى والمخاوف يوصف ب " الشجاعة "

 و أثناء بحثك عن معنى " الشجاعة " سمعت عن حادثة وقعت لرجل اعزل كان يمشي مع اطفاله ,  فاراد رد اهانة عدة رجال مسلحين ..  وبدلأ ان يوصفوه " بالشجاع " , وصِفَ بالمتهور ! وذلك لأنه لم يلحظ ميزان القوة بينه وبين المسلحين ولم يلحظ ايضا الاثار التي يمكن ان تقع في حالة خسارته, فهو لم يحكم عقله جيداً في هذا النزاع


وهكذا تكون معرفة معنى " الرجولة " يتوقف على معرفة " معنى الشجاعة " ومعرفة معنى الشجاعة يتوقف على معرفة معنى " العقل "
فالموضوع الاول الذي يجب ان  " تبدأ " منه في البحث والذي يتفرع منه بقية المعاني :  هو معنى العقل و العاقل وليس معنى الرجل والرجولة !

اذن الرجولة وصف متأخر حتى ندركه بشكل سليم , يجب معرفة المعاني المتقدمة عليها  , ومعرفتنا بالمعاني المتقدمة ستجعل احكامنا تشمل المعاني المتأخرة وأجزائها : مثل الشجاعة والتهور والرجولة ..

ولكن لماذا يقوم البعض بدراسة الجزء المتأخر ويهمل الكل المتقدم ؟

-  الاحكام الوهمية :  فالذهن لديه القدرة بتجسيد صور وعزلها عن سياقها فيظن المرء بأن هذا الموضوع معنى مستقل وليس تابعا لموضوع اخر

- المشهورات : بعض المعاني والالفاظ لها ترسبات اجتماعية مثل مصطلح " الحب " او مصطلح " الحرية " او " مصطلح " الفن " وجميعها معان متأخرة واجزاء من معان متقدمة عليها , فالحب مثلا مجرد مشاعر والمشاعر انفعالات تنشأ بسبب الادراكات او الاطباع , فللبحث عن معنى الحب , نحن بحاجة للبحث عن معنى الادراك


- الاحكام الانفعالية : حيث يطلب المرء الراحة ويبغض الجهد والتعب  , فيتجنب تتبع هذه المعاني المتسلسلة فيطلب البساطة وعدم التعقيد


-  اصحاب المنافع الشخصية : مثل التيارات والاحزاب التي تكون انتاجاتهم على شاكلة :
العقيدة الاسلامية في فكر فلان الفلاني
فهي بذلك تجعل المتلقي  يربط بين المعاني العلمية و اسماء الشخصيات التي يراد التسويق لها
ولو ان هذا المتلقي جعل موضوعه الاول وهو العقيدة لانتبه ان مدار البحث هو  " الموضوع ودليله" والشخصيات اما انها انتبهت لهذا الدليل ودونته او نقلت هذا الدليل بصياغة جديدة او مكررة , وسيرى ان الكثير من الشخصيات لا تستحق كل هذا التعظيم والانبهار لانها لم تأتي اصلا بأي فكرة عبقرية او ابداعية

وهذه الحزبية هي ما تمارسها الاكاديميات ايضا التي صار جل انتاجتها على شكل : " علم الاجتماع عند فلان الفلاني " الرياضيات عند فلان وعلاقته في فلان والخ



# بعض  التطبيقات الموضوع الاول في العلوم : 

1 - علوم اللغة :

أ - و في اللغة العربية يتم التفريق بين كان التامة وكان الناقصة على النحو التالي
اذا كنا نبحث مثلا هل زيد موجود ام لا فهذا يصنف ضمن الكان التامة
اذا كنا نبحث عن هل زيد شجاع ام لا فهذا يصنف ضمن الكان الناقصة

فلاحظ ان كان الناقصة لابد ان ترجع وتعود الى كان التامة

اي وجود زيد فهو الموضوع الاول الذي لولا وجوده لم نستطع البحث هل هو شجاع ام لا
فصفة الشجاعة هي دائما تابعة ومتفرعة لوجود شيء يسبقها

ب - كتاب حازم القرطاجني ونظرية المحاكاة والتخييل في الشعر تأليف سعد مصلوح ص103 :


ونحن بلا شك مترخصون شيئا من الترخص في اسباغ الصفة التطبيقية على كتاب حازم ، فالواضح ان عدد الامثلة الشعرية في قليل الى حد ملحوظ ، كما ان اكثر القضايا عنده تمضي من غير ذكر مثال او دليل . ولكنه يحصي المسائل في كل قضية بطريقة القسمة العقلية حتى لا يند عنه طرف من أطرافها . وقد لحظ ابن القوبع كلتا الخاصيتين في كتاب حازم ، وذلك فيما أورده عند ابن رشيد في رحلته من قوله في كتاب حازم : " لما وقفت على قوانينه ووعيتها ، وان كان ترك التمثيل ، صار كل ما اقرؤه وانظر فيه من كلام بليغ أو بديع يصير كله أمثلة لتلك القوانين


2 - علم اصول الفقه

ما نقله الشيخ المظفر في الاصول
 :

"والمعروف أن أحد اللامعين من تلامذته التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر قبل أن يتعرف عليه وقبل أن يعرف الشيخ بين الناس  وسأله سؤال امتهان واختبار عن سر تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور، فقال له: إنه حاكم عليه. قال: وما الحكومة؟ فقال له:
يحتاج إلى أن تحضر درسي ستة أشهر على الأقل لتفهم معنى الحكومة


مثال اخر  :
أضواء على عقائد الشيعة الإمامية - الشيخ جعفر السبحاني - الصفحة ٥٥٨ :
ب - إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد عند العدلية:
إن من أمعن في الكتاب والسنة يقف على أن التشريع الإسلامي تابع لملاكات، فلا واجب إلا لمصلحة في فعله ولا حرام إلا لمفسدة في اقترافه "
ويقول في صفحة 599 : ولأجل ذلك فقد عقد الفقهاء بابا خاصا لتزاحم الأحكام وتصادمها في بعض الموارد، فيقدمون الأهم على المهم والأكثر مصلحة على الأقل منها، والأعظم مفسدة على الأحقر منها، وهكذا... ويتوصلون في تمييز الأهم عن المهم 

3 - علوم العقيدة : 

أ - الوجود الالهي 

وضحنا بالمقالة بأن هنالك معنى يدركه العقل وهو معنى مستقل في مقابل المعنى التابع

فماهي العلاقة بين المعاني التابعة والمعاني المستقلة ؟
هي علاقة تبعية دائمة و مطلقة
دائما سيكون المعنى التابع متفرعٌ من المعنى المستقل وعائدا اليه 
اي  أن المعنى " التابع " سيرجع دوماً للمعنى المستقل

وهذا الأمر سيكون مقدمة من خلالها تتأسس العلوم العقائدية , فأن العقل بعد ادراكه للمعاني المستقلة والتابعة , يدرك ماهية هذه المعاني عبر ملاحظة اوصافها التي شكلت ماهيتها 

لذلك حين ندرس الإنسان على سبيل المثال نجده موضوعا مستقلا من جهة أنه لا يوجد معان يتقدم عليه , لذلك صرنا نقول انسان مريض , انسان ابيض , اي اننا نضع الانسان اولا ثم ننسب إليه الصفات 

ولكننا نلاحظ بالانسان وجود صفات وجوانب اخرى لا ينطبق عليها هذا الوصف مثل :
-  الانسان مركب من اجزاء ( عين - انف - قلب .. الخ )
- الانسان جزء من اسرة
- الانسان جزء من مجتمع
- الانسان جزء من العالم

فهو بهذه الجوانب ليس مستقلا بل يتصف بالتبعية لشيء اخر

اي انه مستقل من جهة ولكن ليس من كل الجهات , فلابد حينها ان يوجد ماهو مستقل مطلقلا ومن كل الجهات , يرجع اليه كل ما يشبه الانسان من حيث عدم الاستقلال 

فملاحظة وجود ما يتصف ب " ببعض الاستقلالية " يعني هنالك موجود له "مطلق الاستقلالية " اي انه مستقل دوما وابدا 

تسمي الأديان هذا المعنى " المستقل مطلقا"  بلفظ " الاله " فتبحث عنه  في العلوم العقيدة بثلاثة جهات:
من حيث وجوده وصفاته وأفعاله

وبهذا نفهم سبب المفردات الدينية التي تصف الإنسان ب" المخلوق " و " العبد " لأن ما من مخلوق إلا وله خالق ومن من عبد إلا وله سيد
ونفهم أيضا وصف " الاله " بـ " النور " حيث أن النور مضيء بنفسه وينشر نوره على غيره

ولهذا افتتح جلال الدين الرومي ديوانه بوصف الانسان بأنين الناي لأنها تحن لأصلها الشجرة


ب - اثبات النبوة 

العدل في مذهب أهل البيت ( ع ) تأليف الشيخ علا حسون - الفصل الثاني المبحث السابع أدلة ثبوت الحسن والقبح العقليين - الدليل الرابع :

إنّ "المعجزة" هي الوسيلة التي بها يثق الناس بصدق دعوة الأنبياء . ولا يكون هذا الوثوق إلاّ بعد الاعتقاد بالحسن والقبح العقلي المتمثّل في القاعدة التالية وهي:


إنّ إعطاء اللّه المعجزة للكاذب في دعوة النبوّة قبيح ذاتاً .

ومن هنا نثق بصدق مدّعي النبوّة فيما لو جاء بالمعجزة ، لأ نّنا نؤمن بأنّ "إعطاء اللّه تعالى هذه المعجزة للكاذب في دعوة النبوّة" قبيح ذاتاً، واللّه تعالى لا يفعل القبيح . وإنّما "الحسن" إعطاء المعجزة للصادق في دعوة النبوّة . "


4 - العلوم السياسية 

يقول كيثين نيوتن و جان دبليو فان ديث في أسس السياسة المقارنة ج ص 29 :

" تؤكد هذه النظريات على الطبيعة الصراعية للمصالح والقيم في المجتمع وتنظر للدولة باعتبارها أداة لممارسة السلطة / القوة اللازمة لتنظيم تلك الخلافات. وتعتبر النظريات الماركسية نوعا من هذا الاقتراب. حيث تؤكد على النضال الذي لا يمكن تجنبه بين طبقات مختلفة ومصالحها الاقتصادية غير المتطابقة، وتزعم بأن الدولة ليست إلا مجرد أداة يحافظ من خلالها أصحاب الأملاك على سلطتهم /قوتهم على الجماهير الغفيرة من الطبقة العاملة. وكما رأينا سابقا، فقد كان كل من الرأسمالية وبناء الدولة مترابطين بشكل وثيق ، ومن هنا يمكن أيضا المحاججة بأن الدولة هي الوسيلة التي يسيطر من خلالها الرأسماليون على طبقات المجتمع الأخرى من أجل حماية مصالحهم الخاصة. وتتشابه النظريات النسوية للدولة مع النظريات الطبقية من بعض الوجوه، لكنها بدلا من النظرة الطبقية للعالم تری أنه مقسم بين المصالح الذكورية والأنثوية. وتجادل النظريات النسوية بأن الدولة قد وظفت من قبل الرجال للسيطرة على النساء، وأنها ينبغي أن تكون الآن ساحة معركة التحرير النساء "

فبدلا أن يكون الموضوع الاول في النظرية السياسية هو " الكل " اي المجتمع بكل اجزاءه , نجد الماركسية والنسوية جعلت " الجزء " هو الموضوع الاول اي الطبقة العاملة او جنس المرأة , فصارت المنفعة الفئوية هو مدار البحث في هذه النظريات

ومن الواضح هو ان معاملة " الجزء " على انه " الكل " هو جمع بين نقيضين , وما هو متناقض لا يصلح لبناء معرفي نظري 


# من اين جاءت تسمية الميتافيزيقيا ؟

وبما ان المعرفة بطبيعتها تقتضي البحث عن الموضوع الاول لكونه الاساس والحامل لغيره من الصفات والاحوال , وهذا الموضوع الاول يتصف في الشمولية والكلية والتقدم على بقية المعاني
صارت الحاجة للبحث عن هذا المعنى الذي يتقدم ويشمل جميع المعاني حاجة ضرورية , واعني هنا معنى " الوجود " فنحن نصف جميع الأشياء بأنها موجودة ( اي أنها متحققة ولها ماهية ) فمعرفتنا بهذا المعنى سيفتح الباب لمعرفة جميع الاشياء معرفة تامة لانها الصفة المتقدمة التي تشمل كل شيء وسيندرج تحت هذا المفهوم العام مفاهيم اخص حتى نصل الى الاجزاء

وسمي هذا البحث بشكل عام ب " الفلسفة " وبشكل ادق بـ " الفلسفة الاولى " وصار واضحا لماذا قيدت بمصطلح " الاولى "

يقول ارسطو في كتاب الفلسفة الاولى - المقالة الرابعة (ج) - الفصل الثاني :  " بما أن المعرفة العلمية بالمعنى الأتم تكون لما هو أولي، وتستند إليه سائر الأشياء، وبسببه يجري قولنا "كائن" على كل واحد منها، وبما أن الجوهر هو هذا، فمن البين إذن أن الجوهر هو الأمر الذي يجب على الفيلسوف أن يمتلك المعرفة بمبادئه وأسبابه. "


لكن  المتداول اليوم على الالسن هو تسمية هذا العلم بـ  " الميتافيزيقيا " وهو مصطلح مغلوط لان معناه الحرفي : " ما وراء الطبيعة " فهو يوهم المستمع بأنه بأنه سيبحث عن شيء خارج الطبيعة اي خارج قدرة العقل ! وهكذا ارتبط هذا المصطلح بالحوادث الغريبة غير المفهومة !

يقول محمد عبدالرحمن مرحبا – من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الاسلامية ج 1 ص 187 عويدات للنشر والطباعة بيروت – ط 2007 : " وأما تسميته بعلم ما وراء الطبيعة فهي من میتا ( meta ) البونانية ومعناها و بعد او وراء ، و  فوزیس  ( phusia ) ومعناها  الطبيعة ، اي المقالات الأربع عشرة التي تلت كتب الطبيعة وجاء ترتيبها بعدها عند تصنیف کتب ارسطو . ولم يستعمل ارسطو هذه اللفظة ، بل لقد استعمل اسم ( الفلسفة الأولى  و  العلم الإلهي ،. ولعل اول ما ترد كلمة ما بعد الطيبعة ، عند نيقولاوس الدمشقي ( القرن الأول للبلاد ) الذي قد يكون استفادها من معاصره اندرونيقوس الروديسي عند تصنيفه لكتب ارسطو فوضع مقالات الفلسفة الاولى الأربع عشرة بعد كتب الطبيعة . وكلاهما من شراح ارسطو المعروفين ."

يتبع 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق